تحديات.. اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني

من المعلوم أن الفرع الوحيد من فروع القانون الدولي العام وهو «القانون الدولي الإنساني» يُعاني من إشكاليات عدة أهمها «الصراع بين قوة القانون وقانون القوة»، أو الصراع ما بين «قوة الحق وحق القوة»، ولعل ذلك مردّه إلى تقاطع السياسة مع القانون، والازدواجية في المعايير والانتقائية في التطبيق، هذا على الصعيد الدولي، وعلى الصعيد الداخلي يُواجه القانون الدولي الإنساني تحديات عدة تختلف من دولة لأخرى خصوصاً المعوقات التي تواجه اتفاقيات جنيف من حيث التعريف والتوعية بها ونشرها وتدريسها وتنفيذها على الصعيد الوطني لكل دولة على حدة، ولكون اتفاقيات جنيف الأربع والبرتوكولات الملحقة بها تواجه التحديات نفسها لأنها تشكل العمود الفقري لقواعد القانون الدولي الإنساني، وقد تجلى ذلك بصورة أوضح في المدة الأخيرة، ومع مرور مدة طويلة نسبياً على إقرارها (منذ عام 1949م حتى 2024م)، ولعل القاسم المشترك لتلك التحديات يتمثل في حقيقة أن التطور الهائل الذي حصل في مجال النزاعات المسلحة لم يواكبه تطور مماثل في نصوص اتفاقيات جنيف، الأمر الذي نجد معه أن هذا التحدي الأكبر تمخضت عنه تحديات أخرى تستدعي الإشارة إلى أبرزها، وهي على النحو التالي:

1)  لعل من أبرز المعوقات التي تواجه اتفاقيات جنيف على الصعيد الداخلي تكمن في عدم إدراجها ضمن المناهج الدراسية في المراحل الأولى من الدراسة أو ضمن مناهج جامعية معمقة، إذ نجد أنها تدرس في غالبية دول العالم الثالث مادةً اختيارية، بالإضافة إلى خلو المناهج المدرسية من ذلك.
2)  ومن المعوقات كذلك غياب الثقافة القانونية بتلك الاتفاقيات، وذلك بسبب الخلط ما بين مفاهيم القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، أو بسبب أن كثيراً من المجتمعات لا تعتبرها أولوية بالنسبة لها.
3)  إن عدم وجود قاعدة بيانات تتضمن أسماء الخبراء والمختصين في مجال القانون الدولي الإنساني، يشكل عائقاً عند الرجوع إلى اتفاقيات جنيف بسهولة ويُسر لغايات نشرها على أوسع نطاق ممكن. 
4)  أن الجمعيات الوطنية للقانون الدولي الإنساني والتي من المفروض أن يعول عليها الكثير في نشر وتعزيز الامتثال بأحكام تلك الاتفاقيات لم تلبِّ الغرض المطلوب منها بسبب قلة الإمكانيات والموارد المالية المخصصة لديها فيما يتعلق ببعض البلدان التي تشهد نزاعات مسلحة.
5)  أن المؤسسات العاملة في نشر وتعزيز قواعد القانون الدولي الإنساني الواردة في اتفاقيات جنيف ليست لديها خطة إعلامية متكاملة لتحقيق هذه الغاية، لأنها تعتمد في ذلك على وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة، علماً بأن أغلب وسائل الإعلام لا تعطي لذلك المساحة المناسبة، لأنها تغلب الجانب الربحي على جانب نشر الأحكام الواردة في اتفاقيات جنيف، وتستثنى من ذلك الجهود التي تقوم بها اللجنة الدولية للصليب الأحمر من خلال بعثاتها المنتشرة في العالم.
6)  لا توجد لدى المؤسسات العاملة في هذا المجال برامج تدريبية للعاملين في مجال القانون الدولي الإنساني حول اتفاقيات جنيف، وإذا وُجدت مثل هذه البرامج فإنها تخلو من تحديد واضح للفئات المستهدفة من التدريب.
7)  غياب النهج التشاركي أو التنسيق الفعال بين المؤسسات الحكومية والجمعيات الوطنية للهلال الأحمر والصليب الأحمر في العديد من البلدان، حيث نلحظ أن كل جهة تعمل وحدها، الأمر الذي يترتب عليه نوع من الازدواجية في العمل وما يتبع ذلك من هدر للجهد والمال والطاقات.
8)  وجود فجوة ما بين التطبيق العملي والنص النظري، بمعنى أن دول العالم مصادقة تقريباً على كافة اتفاقيات جنيف التي تنص على إلزام الدول بنشرها على أوسع نطاق ممكن وتعزيزها، إلا أننا نجد أن ذلك لا يتحقق على أرض الواقع بشكل يتفق مع الالتزامات المفروضة على عاتق الدول الأطراف في تلك الاتفاقيات.
9)  أن أغلب البلدان لم تقم بالقدر الكافي من المواءمات التشريعية ما بين نصوص قوانينها الوطنية واتفاقيات جنيف المصادق عليها، وإذا وُجدت مثل هذه المراجعة فإنها تتم بشكل بطيء وفي مراحل متباعدة زمنياً.
10) ولعل أهم التحديات التي تواجه اتفاقيات جنيف بعد مرور خمسة وسبعين عاماً تتمثل في التطور السريع لوسائل التفاعل الاجتماعي التي أتاحت للمواطن العادي أن يوجه العديد من الاستفسارات التي تدور حول الازدواجية في التطبيق والمعايير، فنجد أن هناك صعوبة في الإجابة عن تساؤلات المواطن العادي، لماذا تطبق تلك الاتفاقيات على الدول الصغيرة ولا تطبق على الدول الكبرى، أو الدول التي تقوم بانتهاكات واسعة للقانون الدولي الإنساني، وتجلى هذا التساؤل بصورة أوضح بخصوص العدوان على غزة، وهذه ليست وجهة نظر الكاتب؛ إنما وجهة نظر الشارع أو الطالب في أثناء تدريسي مادة القانون الدولي الإنساني.
11) أن المؤسسات العاملة لا تطبق الالتزامات المفروضة على عاتقها بخصوص النشر والتوعية باتفاقيات جنيف على الوجه الأكمل، فعلى سبيل المثال إذا كانت اتفاقيات جنيف تنص على وجوب «نشر القانون الدولي الإنساني على أوسع نطاق ممكن»، إلا أننا نجد أن ذلك يتم لقطاعات قليلة ومحدودة وبدون وجود برامج معمقة لبعض الفئات من العسكريين والمدنيين.
12) أن المؤسسات العاملة في مجال القانون الدولي الإنساني غير قادرة حتى هذه اللحظة على تطوير برامجها وخططها بشكل يهدف إلى تطوير أدائها، وذلك لعدم وجود مؤشرات أداء، ولعدم وجود خطط عمل سنوية.
13) ولعل كثرة النزاعات المسلحة خصوصاً في منطقتنا فرضت نفسها على التطبيق العملي لاتفاقيات جنيف بسبب وجود أنماط جديدة من الاستخدام المفرط لبعض الأسلحة والممارسات التي لم تجد الغطاء القانوني الكافي، مثل استخدام الطائرة بدون طيار (المسيرات)، وظاهرة المقاتلين الأجانب، واستخدام القنابل العنقودية والأسلحة المحرمة دولياً، وأثر التقنيات الحديثة في الحروب، الأمر الذي يستدعي مراجعة تلك الاتفاقيات لتراعي الأنماط المشار إليها.
14) نظراً لوجود أكثر من جهة تعمل في هذا المجال وهي «الحكومات، والجمعيات الوطنية، واللجان الوطنية، والصليب الأحمر، وبعض منظمات المجتمع المدني، والاتحاد الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر»، فنجد أن المشكلات والتحديات هي غياب التنسيق والتشارك في مجال نشر وتعزيز الامتثال للأحكام الواردة في تلك الاتفاقيات.
15) ومن التحديات التي تواجه اتفاقيات جنيف نجد في الغالب الأعم أن نشرها وتعزيز الامتثال بأحكامها لا يتوجب أن يقتصر على الأوساط العسكرية والمدنية المعنية مباشرة بهذا القانون؛ بل أصبح في عالم اليوم ضرورياً لكافة الأفراد، وهذا يتطلب مجهودات ضخمة، ومنها توفير الإمكانيات والموارد المالية من أجل تنفيذ المحاور الرئيسة للنشر الواردة في تلك الاتفاقيات التي تهدف إلى تعزيز ثقافة الوعي بها بشكل خاص، وبالقانون الدولي الإنساني بشكل عام.
16) وهناك تحديات أخرى تواجه اتفاقيات جنيف فرضها تداخل المفاهيم مع بعضها الآخر، مثل صعوبة التفريق ما بين المقاومة المشروعة للشعوب من أجل تقرير مصيرها والإرهاب، وعدم وجود مفهوم أو تعريف مُحدد وواضح للإرهاب، وكذلك دخول مفاهيم ومصطلحات جديدة لم يألفها القانون الدولي الإنساني من قبل مثل «الحرب الاستباقية والمقاتلين الأجانب»، وصعوبة الموازنة بين الحرية والأمن، الأمر الذي فرض تبعات وصعاباً جديدة تواجه القائمين على إنفاذ تلك الاتفاقيات.
17) وأصبحت المؤسسات العاملة في مجال القانون الدولي الإنساني عُرضة للاعتداء عليها، وذلك كما شاهدناه جميعاً في الاعتداء على طواقم سيارات الإسعاف والعاملين في مجال الإغاثة والمستشفيات كما حدث في غزة، وهذا ما حدث فعلاً في بعض مناطق النزاعات المسلحة على الرغم من أن الطواقم الطبية والعاملين في مجال الإغاثة هم من الفئات المحمية بموجب أحكام اتفاقيات جنيف.
18) في الحروب والنزاعات الأخيرة في بعض المناطق، تم استخدام أسلحة تدميرية أحدثت آلاماً لا مبرر لها وعلى نطاق واسع، وخير دليل على ذلك ما حدث في غزة وجنوب لبنان واليمن وليبيا وسوريا، الأمر الذي تبين معه أن الأضرار التي لحقت بالأشخاص والممتلكات لا يمكن للمؤسسات العاملة في مجال حقوق الإنسان أن تتعامل معها بشكل فعال في ظل الانتهاكات القادمة من قبل بعض أطراف النزاع، وهذا انتهاك صارخ لأحكام اتفاقيات جنيف لأنه لم تتم ملاحقة مرتكبي تلك الانتهاكات.
19) ومن التحديات التي تواجه اتفاقيات جنيف أن بعض الأسلحة الحديثة مثل الربوت والطائرة بدون طيار تشكل تهديداً لقواعد القانون الدولى الإنساني، وخصوصاً مبدأ التمييز لأن تلك الأسلحة يعمل بعضها بطريقة تلقائية وبدون تدخل بشري، ومن المحتمل أن يتم اختراق المنظومة التقنية لتلك الأسلحة، الأمر الذي يستدعي مراجعة اتفاقيات جنيف لأخذ ما تطرقنا له في الحسبان.

وبناءً على ما تقدم نجد أن التحديات التي تواجه اتفاقيات جنيف بعد مرور أكثر من سبعين عاماً، هي تحديات ليست بالسهلة، ويترتب عليها إن لم تتم معالجتها، أن تصبح تلك الاتفاقيات في وضع يستدعي مراجعتها دورياً.
ولا بد من إيراد بعض التوصيات والتي يمكن إيجازها فيما يلي:

1.  وضع إستراتيجية متكاملة من أجل نشر وتعزيز مبادئ ومفاهيم القانون الدولي الإنساني التي وردت في اتفاقيات جنيف، وعلى أوسع نطاق ممكن، وبما يعزز الثقافة والوعي بتلك المبادئ والمفاهيم.
2.  لا بدّ للمؤسسات المختلفة العاملة التي تسهر على تطبيق اتفاقيات جنيف (دولية، أو حكومية، أو أهلية) أن تعمل حارساً فعلًا لا قولاً، وأن تعمل وفق النهج التشاركي والتنسيق فيما بينها، الأمر الذي يُجنب الازدواجية في العمل، وهدر الطاقات والموارد، على أن يشمل التنسيق بهذا الخصوص المؤسسات العاملة في الميدان.
3.  ولكون التدريس مرحلة مهمة من مراحل نشر القانون الدولي الإنساني، يتوجب إدماج مبادئ ومفاهيم اتفاقيات جنيف ضمن مناهج التعليم المختلفة.
4.  يتوجب أن ترصد الحكومات الموارد المالية اللازمة لنشر تلك الاتفاقيات على أوسع نطاق ممكن. 
5.  نوصي كذلك بإيجاد نوع من المراجعة التشريعية للنصوص الوطنية الواردة في القوانين المحلية بما يضمن إيجاد التوافق ما بين النص الوارد في اتفاقيات جنيف، والنص الوارد في القوانين الوطنية.
6.  يتوجب إنشاء قاعدة بيانات وطنية على صعيد كل دولة على حدة تتضمن المؤسسات العاملة في مجال القانون الدولي الإنساني والخبراء والاستشاريين، وإنشاء مركز توثيق لقواعد ومبادئ القانون الدولي الإنساني.
7.  ولغايات رفع مستوى المؤسسات وتطوير أدائها يتوجب على الجهات المانحة والجهات الدولية مثل «الأمم المتحدة، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومنظمات الإغاثة الدولية الإنسانية» إيجاد برامج تدريبية لمساعدة المنظمات العاملة في مجال القانون الدولي الإنساني على تطوير اتفاقيات جنيف، وتعزيز الامتثال بأحكامها.
8.  عند إنشاء اللجان الوطنية للقانون الدولي الإنساني، لا يجوز اقتصار العضوية على الجهات الحكومية، بل لا بد من إشراك منظمات المجتمع المدني والخبراء وبصفتهم الشخصية.

وختاماً: أعتقد أن الاعتراف بالمشكلات والتحديات مهم وضروري، لأن الاعتراف بالمشكلة جزء مهم من حلها، خصوصاً في منطقتنا التي تعاني من أنواع شتى من النزاعات المسلحة، ولعل العمل على تقوية المؤسسات العاملة في هذا المجال من أهم الأمور التي يجب أخذها في الحسبان، لأن هذه المؤسسات تحظى بقدر كبير من المرونة والفعالية أكثر من الحكومات، لكون الحكومات وعلى الصعيد الرسمي لا تعتبر ذلك ضمن سلم أولوياتها، في حين أن ذلك يُشكل أولوية قصوى للمؤسسات العاملة في مجال القانون الدولي الإنساني، وهذا ما ثبت من خلال الواقع العملي.
 

يشارك